بقبيلة الجاية في قرية بوليد مقرالزاوية الحجامية التي أسسها سيدي بومدين الحجامي، أصله من زرهون، من شيوخ الطرقية الناصرية، قاد لحركة الجهادية ضد المستعمر الفرنسي والإسباني، والتي انطلقت شرارتها مباشرة بعد توقيع الحماية سنة ,1912 ذلك أنه في أبريل 1912 وقعت اصطدامات بين الجيش الفرنسي والجنود المغاربة أو ما يسمى آنذاك بالجيش الشريفي ووقع تمرد لبعض عناصره بمدينة فاس، توجه على أثره أربعة منهم إلى البادية القريبة من فاس يبحثون عمن يقود الجهاد ضد الاحتلال فدلتهم القبائل على سيدي محمد الحجامي شيخ الزاوية الحجامية لما عرف عنه من استقامة وإخلاص في الدين، وفعلا نادى في القبائل يدعو الى الجهاد. وحسب بعض المؤرخين فقد التف حوله ما يناهز 20 ألف من المجاهدين، وهاجم مدينة فاس بهدف تحريرها من الاحتلال، وحاصرها من جميع الأبواب ووقعت معارك عنيفة داخل المدينة وخارجها، وقد أظهرت القبائل شجاعة واستماتة
كبيرتين في القتال الأمر الذي اضطر الفرنسيين إلى استدعاء الدعم العسكري من مكناس والدار البيضاء فانتصروا في المعركة التي عرفت بمعركة الحجرة الكحيلة، واستولوا هناك على خيمة الحجامي، حيث وجدوا رسالة مازالت في المتحف العسكري الفرنسي الذي كان بفانسين بباريس، وأظن أنه نقل مؤخرا إلى مدينة نانت. هذه الرسالة تبين مدى التخطيط المتقن الذي قامت عليه تلك الحركة كما تشير إلى ذلك المراسلات العسكرية الفرنسية، ولولا السلاح البدائي الذي استعمله المغاربة أمام الآلة الحربية المتطورة آنذاك للفرنسيين لما وقعت الهزيمة.
وقد رجع سيدي محمد الحجامي وأعاد الكرة في مناطق أخرى متفرقة بقبائل بني زروال، إلى أن حاصره الفرنسيون سنة 1914 بالجاية، وذلك بقيادة الجنرال كورو، وطلبوا منه الاستسلام، فما كان منه إلا أن مزق الرسالة التي بعثوها إليه أمام حاملها وقال هذا هو الجواب على اقتراحكم ، فأحرقت داره بالجاية بعد معركة دامية. بعدها هاجر مع أسرته إلى قرية حمدان، وعمر ابنه احمد آنذاك أربع عشر سنة.
في ظروف الجهاد والتنقل المستمر، أمن دراسة ابنه أحمد وتهييئه للجهاد، وهو الذي عرف مجاهدا وفقيها من بعده
لقد أراد رحمه الله ألا ينقطع أبناؤه عن الدراسة، فكان يأتيهم بالفقيه إلى المنزل ليعلمهم أو يرسلهم إلى مسجد القرية، وهناك حفظ القرآن وأتقن التجويد قبل البلوغ وبدأ يتعلم العلوم الشرعية، ومن الشيوخ الذين كان يذكرهم بكثير من الخير الشيخ العلامة محمد الرمبوق الذي كان يجمع بين العلم والجهاد ضد المستعمر. وبعد عدة هجرات بين القبائل، سواء بسبب الهزيمة أو بسبب الصلح الذي كان السكان يرغبون في عقده مع المحتل، استقر في حمدان. حيث واصل ابنه احمد تعليمه. ويذكر احمد رحمه الله في مخطوطاته انه لما قدم المجاهد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي لمنطقة ورغة ببني زورال لمواجهة الفرنسيين، انقطع عن الدراسة والتحق بالجهاد هو وأخوه الأكبر إدريس الذي كان يلعب دور الوسيط بين أبيه والأمير، ويحمل الرسائل المتبادلة بينهما، وهي رسائل حافظ عليها احمد رحمه الله مع مجموعة أخرى من الوثائق والمراسلات المهمة. وقد خاض في هذه المرحلة عدة معارك بالجاية وورغة، وذلك ابتداء من بداية العشرينيات، ثم هاجرت الأسرة من حمدان بعد أن احتل الفرنسيون كل قبيلة بني زروال، وانتقلت إلى محل يقال له المنصف بكتامة، وهي منطقة غابوية
خالية من السكان تعود إلى ملكيتها منذ القرن الحادي عشر الهجري، وتزامنت هذه الهجرة مع استسلام المجاهد الخطابي سنة ,1926 وكان معه عدد من المجاهدين، منهم المجاهد المشهور بشجاعته السيد عبد السلام ابن المقدم التمسماني، الذين التحقوا بكتامة لمواصلة الجهاد إلى جانب الحجامي، وفعلا كان بينهم تنسيق في المعارك ضد الإسبان. وفي هذه الفترة كان محمدالحجامي قد اصبح عاجزا عن الخروج بنفسه للقتال، فكان ابنه احمد يتولى قيادة المحاربين الذي ظلوا معه والذين كانوا ينتمون الى مختلف القبائل كالجاية والحياينة ومزيات ومتيوة وبني ورياكل... وفي هذه الأثناء ألقى الأسبان القبض على أخيه إدريس وحملوه أسيرا ولكن بكثير من الاحترام واللباقة إلى مليلية، وراودوه من أجل أن يقنع أخاه وأباه بالتخلي عن القتال وإغرائهما بالمال، وطبعا كان الجواب بالرفض. لكن بعد فترة من ذلك طلب السكان من أحمد الحجامي مغادرة كتامة لأنهم أرادوا الصلح مع المحتل، فانتقل إلى الأخماس وقام بهجومات على مراكز إسبانية بغمارة وغيرها. وكان من بين المجاهدين الريفيين الذين استمروا في القتال حتى تلك الفترة سيدي محمد بن علي الخمليشي المدعو بالسليطن، والذي كان قد شارك
في معارك فاس والحجرة الكحيلة رغم أن سنه آنذاك لم تكن تتجاوز العشرين.
لا بد من الإشارة إلى القوة العسكرية الفرنسية والإسبانية مقارنة مع السلاح البسيط الذي كان يتوفر عليه المجاهدون، والذي كان في الغالب يعتمد على ما يستولون عليه في المعارك، بل إن أبي، رحمه الله، كان يذكر لنا أنه أحيانا كان المجاهدون عندما تنفذ ذخيرتهم يوهمون العدو بتوفرهم على السلاح بمجرد الضرب على أواني معدنية لتقليد صوت الرصاص .. فقلة العتاد الحربي وفرض الاحتلال سيطرته على جل مناطق الشمال المغربي، فرنسا ببني زروال وإسبانيا بالريف، أحدثا نوعا من الإحباط واليأس لدى السكان الذين كانوا يستسلمون للأمر الواقع، كما يجب ألا نغفل أن المارشال ليوطي المقيم العام لفرنسا بالمغرب، بعد معارك فاس والمناطق المحيطة بها والتي برز فيها المجاهدان الحجامي
وسيدي رحو، أعاد النظر في سياسته الاستعمارية الخاصة بالمنطقة الشمالية من المغربن حيث لاحظ بأن طبيعتها الجغرافية والاجتماعية تختلف عن المناطق الأخرى من المغرب كالحوز مثلا، فاعتمد سياسة القرب مع السكان وإغرائهم بالأموال والمناصب، والاعتماد على بعض أصحاب الزوايا الموالين له. وأحيلكم هنا على مذكرات ليوطي، وأيضا على كتابات الباحث المغربي عبد الله العروي. وقد انتهى الأمر بمحاصرة الإسبان لمن بقي من المجاهدين مع المرحوم أحمد الحجامي ومع المجاهدين بالريف بعد عدة معارك استشهد فيها الكثير، ونجا الآخرون بأعجوبة، فانتقل جزء منهم إلى غزاوة واستسلموا، بينما رجع أحمد إلى قرية تروية بكتامة حيث كان يوجد والده، وقد توفيت والدته أثناء غيبته.. ومنها انتقلوا إلى المنصف التي كانت تحت الهيمنة الفرنسية، وما أن طلع النهار حتى جاء ضابطان فرنسيان أحدهما من مكتب تاونات وآخر من مكتب الطاهريين، ولما وصلا بجنودهما هم والده بالانطلاق فوق فرسه نحو الغابة، ولكن إدريس ابنه أقنعه بألا جدوى من المقاومة في تلك الظروف التي عرفت انهيار المقاومة المسلحة على جميع الجبهات وتفرق المجاهدين أو استشهادهم.
بعد ذلك رحب الفرنسيون به، لكن خيروه بين الإقامة الإجبارية تحت الحراسة بفاس أو بتاونات أو بالحياينة أو بحمدان، فاختار حمدان وانتقلت الأسرة إليها حيث بقيت هناك أكثر من عشر سنوات تحت الحراسة..