ان اكتشاف التاريخ الحضاري لمجتمعاتنا العربية والإسلامية، وليس السياسي فقط، كفيل بجعلنا نتعرف على المنطق الرئيسي الذي كان يتحكم في تطور هذه المجتمعات. ومن نافلة القول الاشارة إلى أن الأمة في تجربتنا الحضارية (أو ما يسمى في عالمنا المعاصر بالمجتمع المدني) كانت لها صلاحيات أكثر بكثير من السلطة السياسية، وبالتالي فإن التطور الثقافي والحضاري الذي شهدته مجتمعاتنا ساهم فيه المجتمع أكثر من مساهمة «الدولة».
وأكبر أوجه الخلل في مناهجنا التعليمية يتمثل في تركيزها الشديد على تاريخ النظم السياسية مع تغييب، ربما في شكل متعمد ومقصود، لتاريخ المجتمعات الثقافي والحضاري.
ومن الواجب الفكري ملاحظة الفروق الأساسية بين تاريخ مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وبين تاريخ المجتمعات الأوروبية/الغربية؛ إذ أنه من أبرز هذه الفروق ـ كما يقول المفكر منير شفيق ـ أن الأمة في مجتمعاتنا سابقة على الدولة، أما في المجتمعات الأوروبية-الغربية فإن الدولة هي التي أفرزت الأمة.
وتعتبر منطقة الريف من المناطق التي يتوجب علينا بذل جهد علمي مؤسسي من أجل اكتشاف تاريخها الحضاري والثقافي. ولا يمكننا في هذا المقال المركز أن نلمّ بكل جوانب هذا التاريخ الغني، بل سنحاول فقط التركيز على بعض الإشارات التي نتمنى أن تفتح شهية الباحثين من أجل اكتشاف هذا الإنسان الريفي الذي لم يكتشف بعد، لأسباب كثيرة ليس الآن المجال لذكرها.
نسارع إلى القول إن منطقة الريف لها شخصيتها الثقافية، ولها بعدها الحضاري. ولعل أبرز سمة تتميز بها الشخصية الثقافية الريفية، هي التحلي بثقافة التآزر وثقافة التضامن؛ وقد ساعدت مجموعة من العوامل على ترسيخ هذه الثقافة، من بينها: الطابع القبلي لمنطقة الريف، وهو طابع تشترك فيه مع دوائر بشرية أخرى، ثم إضافة إلى وعورة مناطقها وشحّ اقتصادها ـ إلى حد ما ـ؛ بحيث كان لزامًا على أهل الريف أن يوجدوا أنواعا من التعاون بين القرى والأسر والقبائل، سواء في ما يتعلق باكتساب الرزق أو في ما يتعلق بمقاومة العدوان الخارجي الطامع في موارد المنطقة.
«إمغارن» مجلس شورى محلي
من أهم المظاهر الثقافية، الأخرى، الموجودة في منطقة الريف ما كان يسمى بـ«إمغارن«؛ وهو عبارة عن مجلس شورى يجمع القبائل، وتتمثل مهمته الأساسية في التخطيط والتفكير، وفي اتخاذ القرارات التي ينبغي القيام بها بالنسبة لمجموع القبائل التي تشكل إثنية (عرقية) مشتركة، أو تشترك في ثقافة أو لغة أو هموم معينة؛ فتكون هذه القبائل مضطرة للتعاون اقتصاديا لحماية نفسها. وهذا حادث عبر التاريخ وما زال مستمرا، ولو أن كلمة «إمغارن» لم يعد لها وجود حاليا، نظرا للتطور المدني الذي شهدته المنطقة الذي همش الاتجاه القبلي. فـ«إمغارن» مهمتهم إذن التخطيط والتفكير في تحويل الآراء والمخططات إلى برامج عمل، وترسيخ فكرة العمل الجماعي والتآزر والتعاون. وبالمناسبة، نشير إلى أنه كان يحق لكل ريفي متزوج أن يصوت في هذا المجلس، فإذا لم يكن متزوجا فله حق الملاحظ وليس له حق التصويت على المشاريع. واتخذ الزواج معيارا لأنه مرتبط بتحمل المسؤولية؛ فالإنسان إذا لم يكن مسؤولا عن بيته فلا يمكن أن يكون مسؤولا عن جماعته!
«تويزا»: تضامن ومشاركة
من أبرز أوجه هذا التعاون، أيضا، ما كان يسمى في اللغة الأمازيغية بـ« تويزا»؛ وهو نوع من العمل المشترك يقوم به كل أفراد القرية نساء ورجالاً أو كل أفراد القبيلة تقريبا، إذا تطلب الأمر ذلك، من أجل مساعدة شخص ما أو الوقوف معه. وقد يتم هذا الأمر بشكل دائري، ويكون متداولا بين جميع الناس؛ لأنهم أدركوا أنه من دون التعاون في الميدان لا يمكن لأي إنسان أن ينجز عمله في الوقت المناسب. فـ«تويزا» تعني القيام بعمل مشترك؛ إما في الفلاحة أو في البناء أو في حفر الآبار أو في شق الطرق أو في بناء المساجد أو في بناء بيت شخص هدم؛ كل هذا يتم بشكل جماعي.
و«تويزا» لها امتداد آخر، وهو ذلك المتعلق بالمجالس القروية التي تعرف في كتب التاريخ بـ«آيت عشرة» وبـ«آيت أربعين»؛ أي مجالس تتكون من عشرة أو أربعين شخصا تصدر عن مجلس «إمغارن» أو «ثجمعت»( أي الجماعة). هذا في ما يخص الجانب التنظيمي الذي جعل «أهل الريف» يستمرون في الحياة
ثم لا ننسى أن الريف المطل على البحر الأبيض المتوسط تربطه علاقة ثقافية مع محيطه المتوسطي. فإلى الآن هناك مظاهر رياضية أو احتفالية أو مسرحية أو موسمية عدة لها علاقة بمجموعة من التقاليد الثقافية المنتشرة على البحر الأبيض المتوسط؛ فالاحتفال، مثلا، بـ«العنصرة» التي قيل أنها من بقايا ثقافات متوسطية لها علاقة بالنار، أو كما قيل أيضا أنها عادة موروثة من العهد المسيحي، هذه العادة هي «نوع من التظاهرة والفرجة، كانت تقام بعد موسم الحصاد وجمع المحصول»، وهناك الكثير من العادات الثقافية والفنية التي كانت منتشرة بكثرة في منطقة الريف. وهذا يدل على أن المجتمع كان مصدر إنتاج الأشكال والتعبيرات التي يعبر من خلالها على فرحه أو قرحه.
ولا ننسى، في هذا الصدد، أن نذكر أنه كانت هناك عقلية سائدة في منطقة الريف ولها أبعادها الثقافية؛ هذه العقلية هي عقلية تقديس الأولياء؛ فهؤلاء الأولياء لا ينظر إليهم فقط على أساس أنهم أصحاب بركة، وإنما بمثابة عسس يقومون بحراسة المنافذ والثغور. ومثل هذا الاعتقاد ناتج بالأساس عن مرحلة المرابطة؛ فهؤلاء الأولياء كانوا يمثلون مراكز رباط لنشر الدين والدفاع على بيضة الإسلام أولا ولمدافعة العدو ثانيا. ومن المعروف أن الريف يوجد على حدود البحر المتوسط في مقابل إسبانيا، وقد ربطتنا بهذه الأخيرة علاقة تاريخية طويلة. فلما توفي هؤلاء الأولياء بقي في أذهان الناس بأن هؤلاء هم حراس بلدهم، وبالتالي كانوا يحظون باحترام وتقدير إلى درجة التقديس!
مدن تاريخية
من جانب آخر، كانت للريف مدن مهمة عدة؛ فمدينة «المزمة» كانت العاصمة الأساسية لإمارة «النكور» الإسلامية التي تأسست في أواخر القرن الأول للهجرة، والتي كانت تسمى أيضا بـ«إمارة بني صالح» و«المزمة» ما زالت آثارها قائمة إلى يومنا هذا، وقد بني عليها نادي البحر الأبيض المتوسط، في أواخر الستينيات على الأرجح، في الحسيمة. وكانت تمتد إمارة بني صالح من منطقة «بادس» غربا إلى نهر «ملوية» شرقا. فمنطقة «الناظور» و«مليلية« ومنطقة «غساسة» كانت كلها تضمها هذه الإمارة. وكان لها ميناء مهم يتواصل من خلاله مع الأندلس (إسبانيا المسلمة) وهو الميناء الموجود حاليا في منطقة «سيدي إدريس». وعندما تم القضاء على هذه الإمارة «الناكورية» أو «الصالحية» في أواسط القرن الخامس للهجرة، على يد المرابطين وهدموا «المزمة» بسبب الحروب، وكانت قد هوجمت مرات عدة من طرف «العبيديين» وكانت تستعيد أنفاسها كل مرة. لكن القضاء النهائي عنها تم في عهد المرابطين على يد يوسف بن تاشفين، حيث كانت له رؤية استراتيجية تقوم على توحيد منطقة المغرب؛ فقد امتدت دولته شرقا إلى الجزائر العاصمة، وامتدت شمالا إلى جبال «البرانسس» في إسبانيا، وجنوبا إلى نهر السنغال. بعد القضاء على هذه الإمارة ظهرت مدينة أخرى غرب «الناكور» وهي مدينة «بادس»، وهذه المدينة ازدهرت ابتداء من أيام المرابطين، وازدهرت أكثر أيام الموحدين وأيام المرينيين؛ ففي عهد المرينيين كانت هذه المدينة تسمى «مرسى فاس»؛ فمنها كانت تصدر البضائع إلى الخارج، وفيها كانت تستقبل الواردات الخاصة بمملكة فاس، وكانت تضم عدوتين؛ العدوة الشرقية والعدوة الغربية، وكان فيهما مسجدان جامعان؛ احدهما للضفة الغربية والآخر للضفة الشرقية. وأهم شخصية تركت مآثر هذه المدينة هو عبد الحق الباديسي، صاحب كتاب: «صلحاء الريف». ففي هذا المؤلف ذكر الكثير من صلحاء الريف الذين تواجدوا في هذه المدينة، ولا يتعلق الأمر فقط بصلحاء الريف بل بالحياة الثقافية كلها التي كانت سائدة هناك، وبمختلف المهن والطبقات الاجتماعية مثل اليهود والنصارى والمسلمين ـ بطبيعة الحال ـ الذين كانوا يتوافدون على المنطقة من أجل التجارة. وبدأ نجم هذه المدينة يأفل رويدا رويدا، وبعد انحسار الدور المغربي في البحر الأبيض المتوسط، إلى أن انمحت. وفي التاريخ المعاصر لم تعرف «بادس» إلا بحجرة بحرية تعرف بـ«جزيرة بادس»؛ واستولى عليها، في البداية، الإسبان في 1515، ثم طردوا في سنة 1522 على يد العثمانيين بمساعدة أفراد من الشعب المغربي، ثم أعادت إسبانيا احتلال هذه الجزيرة سنة 1564 وما زالت محتلة إلى الآن، وهي مرتبطة بالأراضي المغربية وعليها قاعدة عسكرية إسبانية حتى الآن!
مراكز ثقافية
إن منطقة الشمال عموما، و«بلاد الهبط» بوجه أخص، والتي يقول عنها ابن خلدون: إنها استعربت ابتداء من القرن الرابع عشر الميلادي ـ عندما كان ابن خلدون حيا يلاحظ انتشار اللغة العربية بين سكان هذه البلاد ـ هذه المنطقة بالذات كانت عبارة عن مراكز ثقافية خلفية للقرويين أو لمدينة فاس؛ فأهم المراكز العلمية التي كانت تهيئ الطلبة لولوج جامعة القرويين تكونوا في هذه المنطقة التي تسمى «منطقة جبالة». فمدينة «شفشاون» ومدينة «تطوان» وما جاورهما من قبائل «غمارة» و«بني زروال» وقبائل «الخمس» ثم قبيلة «بني عمارت» في الريف الناطقة بالريفية. هذه المناطق كلها معروفة بمراكزها الثقافية بل وبحصونها الثقافية؛ حيث تكون آلاف الطلبة، وقد فضل بعضهم أن يعمل كفقيه في المساجد الصغيرة، وبعضهم فضل متابعة دراسته.
ولم تبخل هذه المنطقة في إنجاب العلماء، وقد يطول المقام هنا لتفصيل الحديث عنهم. ونشير فقط إلى أنه من أشهر علماء المرحلة المرينية يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر العالم أبو عمر علي بن عمر الورياغلي، الشهير بـ«العثماني» أحيانا، وابن الزهراء أحيانا أخرى وله شرح لموطأ مالك بن أنس، في واحد وخمسين سفرا. ويشير المؤرخ المغربي عبد الرحمن بن زيدان إلى أن درجة علمه لا تقل عن درجة ابن عبد البر الأندلسي في هذا المجال.
وبطبيعة الحال لا يمكن الإحاطة بكل من ساهم في التطور العلمي والفكري من هذه المنطقة؛ فتاريخ الأندلس الإسلامية يشهد على أن عددا كبيرا من القضاة والعلماء «النفزاويين»؛ أي المنتسبين إلى منطقة «نفزة» الريفية، كان لهم حضور قوي في الدول المتعاقبة على الأندلس.
أما إذا عدنا إلى العصر الحديث، فيكفي أن نذكر أن الذي قاد الحرب الوطنية التحريرية الأولى؛ محمد بن عبد الكريم الخطابي، كان قاضيا، وكاتبا صحفيا، وكان أستاذا، ووالده عبد الكريم الخطابي كان قاضي من قضاة «بني ورياغل» إلى جانب آخرين من أمثال «الفقيه بولحية» و«قاضي الشمس». ومن المعروف أن قبيلة «بني توزين»، وهي التي توجد شرق قبيلة «بني ورياغل» مباشرة على الضفة الأخرى لنهر «النكور»، هذه القبيلة توصف في الريف بـ«القبيلة العلمية»؛ فأهلها منذ قديم الزمان يمتازون بانتسابهم إلى العلم، وإلى مختلف الصنائع العلمية. وكذلك، أيضا، قبيلة «بني سعيد» تعرف بـ«القضاة»؛ بخاصة طبقة الأشراف فيها.
إذنْ، فمنطقة الريف، مثلها مثل بقية مناطق الريف، لها فترات إشعاع ولها فترات صمود، وهي حتما شاركت في المسيرة الحضارية والثقافية والعلمية للمغرب.
أما إذا عدنا إلى وقتنا الحالي؛ فالجامعات المغربية بأعدادها التي تتجاوز الآن 15 جامعة، يوجد فيها أساتذة باحثون كبار من منطقة الريف. فاليوم لا يوجد محفل ولا مركز بحث إلا وتجد فيه أطرا مغربية من مختلف «الإثنيات» (العرقيات)، وهذا بفضل ذكاء أهل المنطقة وطموحهم وإرادتهم القوية في بناء بلدهم
غياب مشاريع انتاجية
وبالنسبة للجانب الاقتصادي، للأسف هذه المنطقة ما زالت بنيتها التحتية ضعيفة جدا، والمشاريع الإنتاجية والتنموية تكاد تكون غائبة لأسباب تاريخية، وربما سياسية؛ لكن أغلب سكانها هاجروا إلى أوروبا، واستفاد سكان المنطقة من هؤلاء المهاجرين من الناحية المعيشية. والملاحظ، أن المهاجرين؛ بخاصة الجيل الثاني منهم، لم يكتفوا بطلب الرزق. فاليوم سواء في فرنسا أو بلجيكا أو هولندا، هناك زعامات سياسية ونقابية شبابية تعود أصولها إلى هذه المنطقة؛ وهناك من وصل إلى منصب الوزارة، وهناك من وصل إلى البرلمان؛ سواء على صعيد البرلمان المحلي أو على صعيد البرلمان الأوروبي، وهناك من وصل إلى قيادات حزبية. إذنْ، المنطقة هي منطقة لا نستطيع أن نقول إنها نموذجية، ولكن منطقة فاعلة عندما تجد الفرصة مواتية
*